د/ شارل بشري

التصنيفات
الاسرة

د/ شارل بشري

ابن خالة أبونا

يوحنا حبيبنا قد نام.
رحل العمود الثامن لآل بشرى مجلي. نشر أجنحته كالنسر وطار بعيدا محلقاً نحو الشمس… شمس البر التي وهبها حياته وكرس لها عمره. ذهب لأحضان الخالق الحبيب ليستريح من أتعاب طويلة والآم مُرَّة شاء فاديه أن تكون شوكته في الجسد لتكمل قوته الروحية من خلال ضعف جسده. رحل نحو المجد والنعيم والراحة الأبدية في صحبة أمه العذراء البتول التي خدم بيعتها المسماة بالدمشيرية عقوداً طوال عَمَّرها فيها وحولها إلى مصدر اشعاع روحي وبركة. طار بعيداً بعيداً عن أرض الشقاء لينعم بالمجد الأبدي.
كان (هاني) هو الأخ الثامن لنا منذ الطفولة والصبا. كان تآلفه وتناغمه الفكري معنا رائعاً وعبرت محبتنا المتبادلة معه كل الحواجز والجسور فأصبح واحداً منا تجمعنا به محبة فياضة وذكريات عذبة وقفشات ومرح متبادل ظلت ولن تبرح ذاكرتنا على مدى السنين. اندمجت وامتزجت محبته مع ذكائه الحاد وسرعة بديهته وروح الفكاهة الفطرية غير المصطنعة لينتجوا هذا المزيج الفريد الذي جعل كل من عرفه يقع في أسر محبته بلا مقاومة.
كان هاني طبيباً مرموقاً ذكياً ينتظره مستقبل مهني واعد عندما اتخذ بلا تردد قراره.. أن يصبح خادماً للمذبح واهباً حياته كلها لخدمة ربه ومسيحه الحبيب. اختار كنيسة تحسب بين الكنائس الفقيرة التي تخدم شعباً أغلبه من (الناس البسيطة). لم تكن هناك مغريات تجذبه لهذا المكان ولكن شهوة قلبه كانت الخدمة فلم ينظر لأية مكاسب مادية، وساعده في ذلك اقترانه بخادمة رائعة تربت في بيت وهب حياته لخدمة الكنيسة شجعته دوماً وكانت سنداً له ومعيناً نظيره. لم يبخل بجهده ولا صحته التي عانت كثيراً من أجل أن يخدم (من ليس لهم أحد) في بذل وعطاء وصمت متضع. نقل كنيسة العذراء الدمشيرية نقلة رائعة فعمر ورمم مبانيها الأثرية بصورة رائعة، ولكنه في انشغاله بتعمير الجدران لم ينسَ مهمته الأصلية في بناء مذبح صغير للفادي الحبيب في كل أسرة وكل قلب.
ظل (أبونا يوحنا) رغم كل مشاغله جزءاً لا يتجزأ من عائلة بشرى مجلي التي كانت صغيرة ثم اتسعت لتضم العشرات من الزوجات والأزواج ثم الأبناء والأحفاد. كان حاضراً في كل موقف .. في الفرح وفي الحزن ..في المشورة والمعونة. ظل السند والأخ والأب والعم والخال الذي يهرع له الكل ليرتمي في أحضانه الطاهرة التي تغمر الكل بالحب الصافي العذب. تأذى كثيراً من أمراض متنوعة وتجارب صحية قاسية تقبلها بشكر ولم تغب عنه ابتسامة عذبة خبرها وأحبها كل من عرفه وذاق من نبع محبته. لم تتركه روحه البسيطة الحلوة وتذوقه للمداعبات التي طالما غمرناه بها في مناسباتنا العائلية التي لم تكن تحلو إلا بوجوده وسطنا كحزء أصيل لا يتجزأ من حياتنا. مازالت كلماته تدوي في أذني حينما كنا نحاصره بدعاباتنا التي كان يعشقها فيقول لنا (آه… مالي ولكم يا آل بشرى مجلي؟) فنضحك جميعاً مستمتعين بعشرة هذا القلب الصافي الذي لم يعرف غير الحب.
ثم .. ثم دوى البوق… بوق الاختطاف لتلاقي هذه الروح الصافية والقلب العذب الرب في فردوسه حينما طحنه الڤيروس القاسي وأذهب أنفاسه الطاهرة في أيام معدودات. أتى العريس في أسبوع الآلام ليجد نفس خادمه مستعدة مع العذارى الحكيمات اللائي ملأن مصابيحهن من زيت الأعمال الصالحة والحياة الباذلة. فتحت أمه العذراء ذراعيها لتستقبله مع جوقة القديسين. كانت في انتظاره نفوس من سبقوه للمجد الذين لابد وأنهم أنشدوا أناشيد التهليل والنصرة لهذا الراعي الأمين الذي وهب حياته لمذبح الهه فتوجه بأكاليل الغلبة والانتصار. احتضنه (أبونا مرقس) حبيبه بعد أن غاص في أحضان (فلورا) أمه و(الكسندرا) أمه الثانية. نراه محلقاً في مجد أبدي لن ينتهي فتفرح نفوسنا وتحزن في آن واحد إذ تذكر كيف ستفتقد عمود آل بشرى مجلي الثامن الذي رحل بلا وداع.

التصنيفات
الاسرة